فصل: تفسير الآية رقم (109):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (108):

{تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ (108)}
{تِلْكَ} أي التي مرّ ذكرها وعظم قدرها {ءايات الله نَتْلُوهَا عَلَيْكَ} أي نقرؤها شيئًا فشيئًا، وإسناد ذلك إليه تعالى مجاز إذ التالي جبريل عليه السلام بأمره سبحانه وتعالى وفي عدوله عن الحقيقة مع الالتفات إلى التكلم بنون العظمة ما لا يخفى من العناية بالتلاوة والمتلو عليه، والجملة الفعلية في موضع الحال من الآيات والعامل فيها معنى الإشارة. وجوز أن تكون في موضع الخبر لتلك، و{ءايات} بدل منه، وقرئ {يتلوها} على صيغة الغيبة. {ءادَمَ بالحق} أي متلبسة أو متلبسين بالصدق أو بالعدل في جميع ما دلت عليه تلك الآيات ونطقت به فالظرف في موضع الحال المؤكدة من الفاعل أو المفعول.
{وَمَا الله يُرِيدُ ظُلْمًا للعالمين} بأن يحلهم من العقاب ما لا يستحقونه عدلًا أو ينقصهم من الثواب عما استحقوه فضلًا، والجملة مقررة لمضمون ما قبلها على أتم وجه حيث نكر {ظُلْمًا} ووجه النفي إلى إرادته بصيغة المضارع المفيد عونة المقام دوام الانتفاء، وعلق الحكم بآحاد الجمع المعرف والتفت إلى الاسم الجليل؛ والظلم وضع الشيء في غير موضعه اللائق به أو ترك الواجب وهو يستحيل عليه تعالى للأدلة القائمة على ذلك ونفي الشيء لا يقتضي إمكانه فقد ينفى المستحيل كما في قوله تعالى: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} [الإخلاص: 3]، وقيل: الظاهر أن المراد أن الله لا يريد ما هو ظلم من العباد فيما بينهم لا أن كل ما يفعل ليس ظلمًا منه لأن المقام مقام بيان أنه لا يضيع أجر المحسنين ولا يهمل الكافر ويجازيه بكفره، ولو كان المراد أن كل ما يفعل ليس ظلمًا لا يستفاد هذا، وفيه ما لا يخفى.

.تفسير الآية رقم (109):

{وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109)}
{وَللَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} أي له سبحانه وحده ما فيهما من المخلوقات ملكًا وخلقًا وتصرفًا والتعبير بما للتغليب أو للإيذان بأن غير العقلاء بالنسبة إلى عظمته كغيرهم {وَإِلَى الله تُرْجَعُ الامور} أي أمورهم فيجازي كلًا بما تقتضيه الحكمة من الثواب والعقاب، وتقديم الجار للحصر أي إلى حكم الله تعالى وقضائه لا إلى غيره شركة أو استقلالًا، والجملة مقررة لمضمون ما ورد في جزاء الفريقين، وقيل: معطوفة على ما قبلها مقررة لمضمونه والإظهار في مقام الإضمار لتربية المهابة، وقرأ يحيى بن وثاب {ترجع} بفتح التاء وكسر الجيم في جميع القرآن.

.تفسير الآية رقم (110):

{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آَمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110)}
{كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} كلام مستأنف سيق لتثبيت المؤمنين على ما هم عليه من الاتفاق على الحق والدعوة إلى الخير كذا قيل، وقيل: هو من تتمة الخطاب الأول في قوله سبحانه وتعالى: {ياأيها الذين ءامَنُواْ اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران: 102] وتوالت بعد هذا خطابات المؤمنين من أوامر ونواهي واستطرد بين ذلك من يبيض وجهه ومن يسود وشيء من أحوالهم في الآخرة، ثم عاد إلى الخطاب الأول تحريضًا على الانقياد والطواعية وكان ناقصة ولا دلالة لها في الأصل على غير الوجود في الماضي من غير دلالة على انقطاع أو دوام، وقد تستعمل للأزلية كما في صفاته تعالى نحو {وَكَانَ الله بِكُلّ شَيْء عَلِيمًا} [الأحزاب: 40] وقد تستعمل للزوم الشيء وعدم انفكاكه نحو {وَكَانَ الإنسان أَكْثَرَ شَيء جَدَلًا} [الكهف: 54]، وذهب بعض النحاة إلى أنها تدل بحسب الوضع على الانقطاع كغيرها من الأفعال الناقصة والمصحح هو الأول وعليه لا تشعر الآية بكون المخاطبين ليسوا خير أمة الآن، وقيل: المراد كنتم في علم الله تعالى أو في اللوح المحفوظ أو فيما بين الأمم أي في علمهم كذلك، وقال الحسن: معناه أنتم خير أمة، واعترض بأنه يستدعي زيادة كان وهي لا تزاد في أول الجملة.
{أُخْرِجَتْ} أي أظهرت وحذف الفاعل للعلم به {لِلنَّاسِ} متعلق بما عنده، وقيل: بخير أمة، وجملة أخرجت صفة لأمة وقيل: لخير، والأول أولى، والخطاب قيل: لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة وإليه ذهب الضحاك، وقيل: للمهاجرين من بينهم وهو أحد خبرين عن ابن عباس، وفي آخر أنه عام لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، ويؤيده ما أخرجه الإمام أحمد بسند حسن عن أبي الحسن كرم الله تعالى وجهه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعطيت ما لم يعط أحد من الأنبياء نصرت بالرعب وأعطيت مفاتيح الأرض وسميت أحمد وجعل التراب لي طهورًا وجعلت أمتي خير الأمم» وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه أن الآية في أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، وأخرج ابن جرير عن عكرمة أنها نزلت في ابن مسعود وعمار بن ياسر وسالم مولى أبي حذيفة وأبيّ بن كعب ومعاذ بن جبل، والظاهر أن الخطاب وإن كان خاصًا بمن شاهد الوحي من المؤمنين أو ببعضهم لكن حكمه يصلح أن يكون عامًا للكل كما يشير إليه قول عمر رضي الله تعالى عنه فيما حكى قتادة «يا أيها الناس من سره أن يكون من تلكم الأمة فليؤد شرط الله تعالى منها» وأشار بذلك إلى قوله سبحانه.
{تَأْمُرُونَ بالمعروف وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكر} فإنه وإن كان استئنافًا مبينًا لكونهم خير أمة أو صفة ثانية لأمة على ما قيل إلا أنه يفهم الشرطية والمتبادر من المعروف الطاعات ومن المنكر المعاصي التي أنكرها الشرع. وأخرج ابن المنذر وغيره عن ابن عباس في الآية أن المعنى تأمرونهم أن يشهدوا أن لا إله إلا الله ويقرّوا بما أنزل الله تعالى وتقاتلونهم عليهم ولا إله إلا الله هو أعظم المعروف وتنهونهم عن المنكر والمنكر هو التكذيب وهو أنكر المنكر وكأنه رضي الله تعالى عنه حمل المطلق على الفرد الكامل وإلا فلا قرينة على هذا التخصيص.
{وَتُؤْمِنُونَ بالله} أريد بالإيمان به سبحانه الإيمان بجميع ما يجب الإيمان به لأن الإيمان إنما يعتد به ويستأهل أن يقال له إيمان إذا آمن بالله تعالى على الحقيقة وحقيقة الإيمان بالله تعالى أن يستوعب جميع ما يجب الإيمان به فلو أخل بشيء منه لم يكن من الإيمان بالله تعالى في شيء، والمقام يقتضيه لكونه تعريضًا بأهل الكتاب وأنهم لا يؤمنون بجميع ما يجب الإيمان به كما يشعر بذلك التعقيب بنفي الإيمان عنهم مع العلم بأنهم مؤمنون في الجملة وأيضًا المقام مقام مدح للمؤمنين بكونهم خير أمة أخرجت للناس وهذه الجملة معطوفة على ما قبلها المعلل للخيرية فلو لم يرد الإيمان بجميع ما يجب الإيمان به لم يكن مدحًا فلا يصلح للتعليل والعطف يقتضيه وإنما أخر الإيمان عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع تقدمه عليهما وجودًا ورتبة كما هو الظاهر لأن الإيمان مشترك بين جميع الأمم دون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهما أظهر في الدلالة على الخيرية، ويجوز أن يقال قدمهما عليه للاهتمام وكون سوق الكلام لأجلهما، وأما ذكره فكالتتميم، ويجوز أيضًا أن يكون ذلك للتنبيه على أن جدوى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الدين أظهر مما اشتمل عليه الإيمان بالله تعالى لأنه من وظيفة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ولو قيل قدما وأخر للاهتمام وليرتبط بقوله تعالى: {وَلَوْ ءامَنَ أَهْلُ الكتاب لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ} لم يبعد أي لو آمنوا إيمانًا كما ينبغي لكان ذلك الإيمان خيرًا لهم مما هم عليه من الرياسة في الدنيا لدفع القتل والذل عنهم، والآخرة لدفع العذاب المقيم، وقيل: لو آمن أهل الكتاب حمد صلى الله عليه وسلم لكان خيرًا لهم من الإيمان وسى وعيسى فقط عليهما السلام، وقيل: المفضل عليه ما هم فيه من الكفر فالخيرية إنما هي باعتبار زعمهم، وفيه ضرب تهكم بهم وهذه الجملة معطوفة على {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} مرتبطة بها على معنى ولو آمن أهل الكتاب كما آمنتم وأمروا بالمعروف كما أمرتم ونهوا عن المنكر كما نهيتم لكان خيرًا لهم.
{مّنْهُمُ المؤمنون} كعبد الله بن سلام وأخيه وثعلبة بن شعبة. {وَأَكْثَرُهُمُ الفاسقون} أي الخارجون عن طاعة الله تعالى وعبر عن الكفر بالفسق إيذانًا بأنهم خرجوا عما أوجبه كتابهم، وقيل: للإشارة إلى أنهم في الكفار نزلة الكفار في العصاة لخروجهم إلى الحال الفاحشة التي هي منهم أشنع وأفظع.

.تفسير الآية رقم (111):

{لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (111)}
{لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى} استثناء متصل لأن الأذى عنى الضرر اليسير كما يشهد به مواقع الاستعمال فكأنه قيل: لن يضروكم ضررًا مّا إلا ضررًا يسيرًا، وقيل: إنه منقطع لأن الأذى ليس بضرر وفيه نظر. والآية كما قال مقاتل: نزلت لما عمد رؤساء اليهود مثل كعب وأبي رافع وأبي ياسر وكنانة وابن صوريا إلى مؤمنيهم كعبد الله بن سلام وأصحابه، وآذوهم لإسلامهم وكان إيذاءًا قوليًا على ما يفهمه كلام قتادة وغيره، وكان ذلك الافتراء على الله تعالى كما قاله الحسن.
{وَإِن يقاتلوكم يُوَلُّوكُمُ الادبار} أي ينهزموا من غير أن يظفروا منكم بشيء، وتولية الأدبار كناية عن الانهزام معروفة. {ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ} عطف على جملة الشرط والجزاء، و{ثُمَّ} للترتيب والتراخي الإخباري أي لا يكن لهم نصر من أحد ثم عاقبتهم العجز والخذلان إن قاتلوكم أو لم يقاتلوكم. وفيه تثبيت للمؤمنين على أتم وجه. وقرئ {ثم لا ينصروا} والجملة حينئذٍ معطوفة على جزاء الشرط، وثم للتراخي في الرتبة بين الخبرين لا في الزمان لمقارنته، وجوز بعضهم كونها للتراخي في الزمان على القراءتين بناءًا على اعتباره بين المعطوف عليه وآخر أجزاء المعطوف، وقراءة الرفع أبلغ لخلوها عن القيد.
وفي هذه الآية دلالة واضحة على نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم ولكونها من الإخبار بالغيب الذي وافقه الواقع لأن يهود بني قينقاع وبني قريظة والنضير ويهود خيبر حاربوا المسلمين ولم يثبتوا ولم ينالوا شيئًا منهم ولم تخفق لهم بعد ذلك راية ولم يستقم أمر ولم ينهضوا بجناح.

.تفسير الآية رقم (112):

{ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بما عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (112)}
{ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة} أي ذلة هدر النفس والمال والأهل، وقيل: ذلة التمسك بالباطل وإعطاء الجزية، قال الحسن: أذلهم الله تعالى فلا منعة لهم وجعلهم تحت أقدام المسلمين وهذا من ضرب الخيام والقباب كما قاله أبو مسلم، قيل: ففيه استعارة مكنية تخييلية، وقد يشبه إحاطة الذلة واشتمالها عليهم بذلك على وجه الاستعارة التبعية، وقيل: هو من قولهم: ضرب فلان الضريبة على عبده أي ألزمها إياه فالمعنى ألزموا الذلة وثبتت فيهم فلا خلاص لهم منها {أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ} أي وجدوا، وقيل: أخذوا وظفر بهم، و{أَيْنَمَا} شرط، وما زائدة وثقفوا في موضع جزم وجواب الشرط محذوف يدل عليه ما قبله أو هو بنفسه على رأي {إِلاَّ بِحَبْلٍ مّنْ الله وَحَبْلٍ مّنَ الناس} استثناء مفرغ من أعم الأحوال، والمعنى على النفي أي لا يسلمون من الذلة في حال من الأحوال إلا في حال أن يكونوا معتصمين بذمة الله تعالى أو كتابه الذي أتاهم وذمة المسلمين فإنهم بذلك يسلمون من القتل والأسر وسبي الذراري واستئصال الأموال. وقيل: أي إلا في حال أن يكونوا متلبسين بالإسلام واتباع سبيل المؤمنين فإنهم حينئذٍ يرتفع عنهم ذل التمسك والإعطاء {وَبَاءوا بِغَضَبٍ مّنَ الله} أي رجعوا به وهو كناية عن استحقاقهم له واستيجابهم إياه من قولهم باء فلان بفلان إذا صار حقيقًا أن يقتل به، فالمراد صاروا أحقاء بغضبه سبحانه والتنوين للتفخيم والوصف مؤكد لذلك {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ المسكنة} فهم في الغالب مساكين وقلما يوجد يهودي يظهر الغنى.
{ذلك} أي المذكور من المذكورات {بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بآيات الله} الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم {وَيَقْتُلُونَ الانبياء بِغَيْرِ حَقّ} أصلًا، ونسبة القتل إليهم مع أنه فعل أسلافهم على نحو ما مر غير مرة {ذلك بما عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ} إشارة إلى كفرهم وقتلهم الأنبياء عليهم السلام على ما يقتضيه القرب فلا تكرار، وقيل: معناه أن ضرب الذلة وما يليه كما هو معلل بكفرهم وقتلهم فهو معلل بعصيانهم واعتدائهم، والتعبير بصيغة الماضي والمضارع لما مر.
ثم إن جملة {مّنْهُمُ المؤمنون} [آل عمران: 110] وكذا جملة {لَن يَضُرُّوكُمْ} [آل عمران: 111] وما عطف عليها واردتان على سبيل الاستطراد ولذا لم يعطفا على الجملة الشرطية قبلهما وإنما لم يعطف الاستطراد الثاني على الأول لتباعدهما وكون كل منهما نوعًا من الكلام، وقال بعض المحققين: إن هاتين الجملتين مع ما بعدهما مرتبط بقوله تعالى: {وَلَوْ ءامَنَ} [آل عمران: 110] مبين له، فقوله سبحانه: {مّنْهُمُ المؤمنون وَأَكْثَرُهُمُ الفاسقون} [آل عمران: 110] عمبين لذلك باعتبار أن المفروض إيمان الجميع، وإلا فبعضهم مؤمنون رفعًا لسوء الظن بالبعض، وقوله عز شأنه: {لَن يَضُرُّوكُمْ} [آل عمران: 111] بيان لما هو خير لهم وهو أنهم لعدم إيمانهم مبتلون شقة التدبير لإضراركم وبالحزن على الخيبة وتدبير الغلبة عليكم بالمقابلة والغلبة لكم وفي طلب الرياسة خالفتكم وضرب الله تعالى عليهم الذلة لتلك المخالفة وفي طلب المال بأخذ الرشوة بتحريف كتابهم وضرب الله عليهم المسكنة، ولو آمنوا لنجوا من جميع ذلك انتهى ولا يخفى أن هذا على تقدير قبوله وتحمل بعده لا يأبى القول بالاستطراد لأنه أن يذكر في أثناء الكلام ما يناسبه وليس السياق له، وإنما يأبى الاعتراض ولا نقول به فتأمل.
هذا ومن باب الإشارة: {لَن تَنَالُواْ البر} الذي هو القرب من الله {حتى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} أي بعضه، والإشارة به إلى النفس فإنها إذا أنفقت في سبيل الله زال الحجاب الأعظم وهان إنفاق كل بعدها {وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْء فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ} [آل عمران: 92] فينبغي تحرّي ما يرضيه، ويحكى عن بعضهم أنه قال: المنفقون على أقسام: فمنهم من ينفق على ملاحظة الجزاء والعوض ومنهم من ينفق على مراقبة رفع البلاء والمحن ومنهم من ينفق اكتفاءًا بعلمه ولله تعالى در من قال:
ويهتز للمعروف في طلب العلا ** لتذكر يومًا عند سلمى شمائله

{كُلُّ الطعام كَانَ حِلًا لّبَنِى إسراءيل إِلاَّ مَا حَرَّمَ إسراءيل على نَفْسِهِ} [آل عمران: 93] قيل: فائدة الإخبار بذلك تعليم أهل المحبة أن يتركوا ما حبب إليهم من الأطعمة الشهية واللذائذ الدنيوية رغبة فيما عند الله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِى بِبَكَّةَ} وهو الكعبة التي هي من أعظم المظاهر له تعالى حتى قالوا: إنها للمحمديين كالشجرة لموسى عليه السلام {مُبَارَكًا} بما كساه من أنوار ذاته {وهدى} بما كساه من أنوار صفاته {للعالمين} [آل عمران: 96] على حسب استعدادهم {فِيهِ ءايات بينات مَّقَامُ إبراهيم} المشتمل على الرضا والتسليم والانبساط واليقين والمكاشفة والمشاهدة والخلة والفتوة أو المعرفة والتوحيد والفناء والبقاء والسكر والصحو، أو جميع ذلك {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءامِنًا} من غوائل نفسه لأنه مقام التمكين وتطبيق ذلك على ما في الأنفس أن البيت إشارة إلى القلب الحقيقي، ويحمل ما ورد أن البيت أول ما ظهر على وجه الماء عند خلق السماء والأرض وخلق قبل الأرض بألفي عام وكان زبدة بيضاء على وجه الماء فدحيت الأرض تحته على ذلك وظهوره على الماء حينئذٍ تعلقه بالنطفة عند خلق سماء الروح الحيوان وأرض البدن، وخلقه قبل الأرض إشارة إلى قدمه وحدوث البدن، وتقييد ذلك بألفي عام إشارة إلى تقدمه على البدن بطورين طور النفس وطور القلب تقدمًا بالرتبة إذ الألف رتبة تامة، وكونه زبدة بيضاء إشارة إلى صفاء جوهره، ودحو الأرض تحته إشارة إلى تكون البدن من تأثيره وكون أشكاله وصور أعضائه تابعة لهيئاته ولا يخفى أن محل تعلق الروح بالبدن واتصال القلب الحقيقي به أولا هو القلب الصنوبري وهو أول ما يتكون من الأعضاء وأول عضو يتحرك وأخر عضو يسكن فيكون {أول بيت وضع للناس للذي ببكة} الصدر صورة، أو أول متعبد وضع لهم للقلب الحقيقي الذي هو ببكة الصدر المعنوي الذي هو أشرف مقام في النفس وموضع ازدحام القوى إليه، ومعنى كونه {مباركًا} أنه ذو بركة إلهية بسبب فيض الخير عليه، وكونه {هدى} أنه يهتدي به إلى الله تعالى والآيات التي فيه هي العلوم والمعارف والحكم والحقائق، و{مقام إبراهيم} إشارة إلى العقل الذي هو مقام قدم إبراهيم الروح يعني محل اتصال نوره من القلب ولا شك أن من دخل ذلك {كان آمنًا} من أعداء سعالى المتخيلة وعفاريت أحاديث النفس واختطاف شياطين الوهم وجن الخيالات واغتيال سباع القوى النفسانية وصفاتها{وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران؛ 97] وهم أهل معرفته عز شأنه، وأما الجاهلون به فلا قاموا ولا قعدوا، يحكى عن بعضهم أنه قال: قلت للشبلي: إني حججت فقال: كيف فعلت؟ فقلت: اغتسلت وأحرمت وصليت ركعتين ولبيت فقال لي: عقدت به الحج؟ فقلت: نعم قال: فسخت بعقدك كل عقد عقدت منذ خلقت مما يضاد هذا العقد؟ قلت: لا قال: فما عقدت، ثم قال نزعت ثيابك؟ قلت: نعم قال: تجردت عن كل فعل فعلت؟ قلت: لا قال: ما نزعت، فقال. تطهرت؟ قال: نعم قال: أزلت عنك كل علة؟ فقلت: لا قال فما تطهرت، قال لبيت؟ قلت: نعم قال: وجدت جواب التلبية مثلًا ثل؟ قلت: لا قال: ما لبيت، قال دخلت الحرم؟ قلت: نعم قال: اعتقدت بدخولك ترك كل محرم؟ قلت: لا قال: ما دخلت، قال: أشرفت على مكة؟ قلت: نعم قال: أشرف عليك حال من الله تعالى؟ قلت لا قال: ما أشرفت، قال: دخلت المسجد الحرام؟ قلت: نعم قال: دخلت الحضرة؟ قلت: لا قال: ما دخلت المسجد الحرام، قال: رأيت الكعبة؟ قلت: نعم قال: رأيت ما قصدت له؟ قلت: لا قال ما رأيت الكعبة، قال رملت وسعيت؟ قلت: نعم قال: هربت من الدنيا ووجدت أمنًا مما هربت؟ قلت: لا قال: ما فعلت شيئًا، قال: صافحت الحجر؟ قلت: نعم قال: من صافح الحجر فقد صافح الحق ومن صافح الحق ظهر عليه أثر الأمن أفظهر عليك ذلك؟ قلت: لا قال: ما صافحت؛ قال: أصليت ركعتين بعد؟ قلت: نعم قال: أوجدت نفسك بين يدي الله تعالى؟ قلت: لا قال: ما صليت. قال: خرجت إلى الصفا؟ قلت: نعم قال: أكبرت؟ قلت: نعم فقال: أصفا سرك وصغرت في عينك الأكوان؟ قلت: لا قال: ما خرجت ولا كبرت. قال: هرولت في سعيك؟ قلت: نعم قال: هربت منه إليه؟ قلت: لا قال: ما هرولت، قال: وقفت على المروة؟ قلت: نعم قال: رأيت نزول السكينة عليك وأنت عليها: قلت لا قال: ما وقفت على المروة، قال: خرجت إلى منى؟ قلت: نعم قال: أعطيت ما تمنيت؟ قلت: لا قال: ما خرجت، قال: دخلت مسجد الخيف؟ قلت: نعم قال: تجدد لك خوف؟ قلت: لا قال: ما دخلت، قال: مضيت إلى عرفات؟ قلت: نعم قال: عرفت الحال الذي خلقت له والحال الذي تصير إليه؟ وهل عرفت من ربك ما كنت منكرًا له؟ وهل تعرف الحق إليك بشيء؟ قلت: لا قال: ما مضيت، قال: نفرت إلى المشعر الحرام؟ قلت: نعم قال: ذكرت الله تعالى فيه ذكرًا أنساك ذكر ما سواه؟ قلت لا قال: ما نفرت، قال: ذبحت؟ قلت: نعم قال: أفنيت شهواتك وإراداتك في رضاء الحق؟ قلت: لا قال: ما ذبحت، قال: رميت؟ قلت: نعم قال: رميت جهلك منك بزيادة علم ظهر عليك؟ قلت: لا قال: ما رميت، قال: زرت؟ قلت: نعم قال: كوشفت عن الحقائق؟ قلت: لا قال: ما زرت، قال: أحللت؟ قلت: نعم قال: عزمت على الأكل من الحلال قدر ما تحفظ به نفسك؟ قلت: لا قال: ما أحللت، قال: ودعت؟ قلت نعم قال: خرجت من نفسك وروحك بالكلية؟ قلت: لا قال: ما ودعت ولا حججت وعليك العود إن أحببت وإذا حججت فاجتهد أن تكون كما وصفت لك انتهى.
فهذا الذي ذكره الشبلي هو الحج الذي يستأهل أن يقال له حج، ولله تعالى عباد أهّلهمْ لذلك وأقدرهم على السلوك في هاتيك المسالك فحجهم في الحقيقة منه إليه وله فيه فمطافهم حظائر القربة على بساط الحشمة وموقفهم عرفة العرفان على ساق الخدمة ليس لهم غرض في الجدران والأحجار وهيهات هيهات ما غرض المجنون من الديار إلا الديار، ومن كفر وأعرض عن المولى بهوى النفس {فإن الله غني عن العالمين} [آل عمران: 97] فهو سبحانه غني عنه لا يلتفت إليه {قُلْ ياأهل أَهْلِ الكتاب لَمَن تَكْفُرُونَ بئيات الله} الدالة على توحيده {والله شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ} [آل عمران: 98] إذ هو أقرب من حبل الوريد {قُلْ ياأهل أَهْلِ الكتاب لَمَن تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله} بالإنكار على المؤمنين {مَنْ ءامَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا} بإيراد الشبه الباطلة {وَأَنْتُمْ شُهَدَاء} عالمون بأنها حق لا اعوجاج فيها {وَمَا الله بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ} [آل عمران: 99] فيجازيكم به {ذَلِكَ بِأَنَّ الذين كَفَرُواْ} الإيمان الحقيقي {إِن تُطِيعُواْ فَرِيقًا مّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب} خوفًا من إنكارهم ما أنتم عليه من الحقيقة والطريق الموصل إليه سبحانه: {يَرُدُّوكُم بَعْدَ إيمانكم} الراسخ فيكم {كافرين} [آل عمران: 100] لأن إنكار الحقيقة كفر كإنكار الشريعة،
{وَمَن يَعْتَصِم بالله فَقَدْ هُدِىَ إلى صراط مّسْتَقِيمٍ} [آل عمران: 101] أي من يعتصم به منه فقد اهتدى إليه به، قال الواسطي: ومن زعم أنه يعتصم به من غيره فقد جهل عظمة الربوبية، وحقيقة الاعتصام عند بعضهم انجذاب القلب عن الأسباب التي هي الأصنام المعنوية والتبري إلى الله تعالى من الحول والقوة، وقيل: الاعتصام للمحبين هو اللجأ بطرح السوي، ولأهل الحقائق رفع الاعتصام لمشاهدتهم أنهم في القبضة {مّسْتَقِيمٍ ياأيها الذين ءامَنُواْ اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ} بصون العهود وحفظ الحدود والخمود تحت جريان القضاء بنعت الرضا، وقيل: حق التقوى عدم رؤية التقوى {وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 102] أي لا تموتن إلا على حال إسلام الوجود له أي ليكن موتكم هو الفناء في التوحيد {واعتصموا بِحَبْلِ الله جَمِيعًا} [آل عمران: 103] وهو عهده الذي أخذه على العباد يوم {أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ} [الأعراف: 172] {وَلاَ تَفَرَّقُواْ} باختلاف الأهواء {واذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ} بالهداية إلى معالم التوحيد المفيد للمحبة في القلوب {إِذْ كُنتُم أَعْدَاء} لاحتجابكم بالحجب النفسانية والغواشي الطبيعية {فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ} بالتحاب في الله تعالى لتنورها بنوره {فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ} عليكم {إِخْوَانًا} في الدين {وَكُنتُمْ على شَفَا حُفْرَةٍ مّنَ النار} وهي مهوى الطبيعة الفاسقة وجهنم الحرمان {فَأَنقَذَكُمْ مّنْهَا} [آل عمران: 103] بالتواصل الحقيقي بينكم إلى سدرة مقام الروح وروح جنة الذات {وَلْتَكُن مّنْكُمْ أُمَّةٌ} كالعلماء العارفين أرباب الاستقامة في الدين {يَدْعُونَ إِلَى الخير} أي يرشدون الناس إلى الكمال المطلق من معرفة الحق تعالى والوصول إليه {وَيَأْمُرُونَ بالمعروف} المقرب إلى الله تعالى: {وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر} المبعد عنه تعالى: {وأولئك هُمُ المفلحون} [آل عمران: 104] الذين لم يبق لهم حجاب وهم خلفاء الله تعالى في أرضه {وَلاَ تَكُونُواْ كالذين تَفَرَّقُواْ} واتبعوا الأهواء والبدع {واختلفوا مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ البينات} الحجج العقلية والشرعية الموجبة للاتحاد واتفاق الكلمة {وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 105] وهو عذاب الحرمان من الحضرة {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} قالوا: ابيضاض الوجه عبارة عن تنور وجه القلب بنور الحق المتوجه إليه والإعراض عن الجهة السفلية النفسانية المظلمة ولا يكون ذلك إلا بالتوحيد واسوداده ظلمة وجه القلب بالإقبال على النفس الطالبة لحظوظها والإعراض عن الجهة العلوية النورانية {فَأَمَّا الذين اسودت وُجُوهُهُمْ} فيقال لهم {أَكْفَرْتُمْ} أي احتجبتم عن الحق بصفات النفس {بَعْدَ إيمانكم} أي تنوركم بنور الاستعداد وصفاء الفطرة وهداية العقل {فَذُوقُواْ العذاب} وهو عذاب الاحتجاب عن الحق {ا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} [آل عمران: 106] به {وَأَمَّا الذين ابيضت وُجُوهُهُمْ فَفِى رَحْمَةِ الله} الخاصة التي هي شهود الجمال {هُمْ فِيهَا خالدون} [آل عمران: 107] باقون بعد الفناء {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ} من مكامن الأزل {لِلنَّاسِ} أي لنفعهم {تَأْمُرُونَ بالمعروف} الموصل إلى مقام التوحيد {وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكر} وهو القول بتحقق الكثرة على الحقيقة {وَلَوْ ءامَنَ أَهْلُ الكتاب} كإيمانكم {لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ} مما هم عليه {مّنْهُمُ المؤمنون} كإيمانكم {وَأَكْثَرُهُمُ الفاسقون} [آل عمران: 110] الخارجون عن حرم الحق {لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى} وهو الإنكار عليكم بالقول: {وَإِن يقاتلوكم} ولم يكتفوا بذلك الإيذاء {يُوَلُّوكُمُ الادبار} ولا ينالون منكم شيئًا لقوة بواطنكم وضعفهم {ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ} [آل عمران: 111] لا ينصرهم أحد أصلًا بل يبقون مخذولين لعدم ظهور أنوار الحق عليهم، والله تعالى الموفق.